السيدات و السادة،
يسرني بالغ السرور أن أخاطب هذا الجمع الموقر. إن ألمانيا مكان مناسب تماماً لعقد اجتماع لتبادل الآراء حول النظام العالمي الحالي والتهديدات التي تواجهه. فهي بلد يدعم قيم الحرية وحكم القانون، كما أنها دعامة كبرى في الاتحاد الأوروبي، حيث يرى كثيرون أنها معقل للتعايش والتعاون العابر للحدود.
وفي حين أننا جميعا ندرك التحديات التي تواجه الاتحاد الأوروبي، إلا أننا في الشرق الأوسط –وأنا متأكد أن هذا صحيح أيضاً في أماكن أخرى– ننظر إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره برهاناً على إمكانية التعايش السلمي والازدهار الجماعي في أعقاب الصراعات المروعة.
وكهيئة، فإن الاتحاد الأوروبي يُظهر أن بإمكان اتحاد ما تحقيق أمن مشترك قائم على المصالح المتبادلة حتى بين الشعوب التي مزقتها الحروب.
وسواء شئنا أم أبينا، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الـ (بريكست) يقدم مثالا للحل السلمي للخلافات، حيث لم تُقطع علاقات دبلوماسية، ولم تُرق دماء.
وهذا درس لنا هنا في المنطقة العربية.
إن الاتحاد الأوروبي يقدم إطاراً للحوكمة الإقليمية والتحكيم السلمي للمنازعات. وهناك حاجة ماسة إلى هذا الإطار في منطقة الشرق الأوسط.
واليوم، تتصرف العديد من الحكومات والقوى الدولية دون أن تتعرض للعقاب، ودون أن تراعي حقوق الإنسان.
إن انعدام المساءلة بشأن الحكم الرشيد منتشر على نطاق واسع. لذا فلا غرو أن الشعوب تفقد الأمل. فالأشخاص الذين كان يفترض أن يحاكموا على جرائم حرب ضد شعوبهم هم أنفسهم مرشحون محتملون في انتخابات رئاسية
وبمقدور جمهور مثلكم معرفة كيف ولماذا يفقد كثير من الناس، بل وحتى أمم بأسرها، الثقة في المساءلة الدولية. إنهم يعتقدون –وذلك صحيح جدلا- أن العديد من الآليات الدولية لتسوية النزاعات والحفاظ على الحقوق قد أصيبت بالشلل وهُمشت.
فمنطقتنا تقدم أمثلة عديدة: الفلسطينيون منذ النكبة، قبل سبعين عاما، والوضع في كل من سورية وليبيا وأفغانستان، واليمن.
قد تبدو معاناة الناس في منطقتنا بعيدة عن أذهان الحضور هنا في ميونخ، ولكن أمواج اللاجئين تجعل من هذه المظالم مصدر قلق لأوروبا.
واليوم يلقي ظلام الإرهاب بظلاله على العالم برمته.
إن المعاناة والظلم يمهدان الطريق أمام تفشي الإرهاب، فيما سيُحرف الفاعلون الأشرار العقائد الدينية لتسميم عقول اليائسين. إن المذاهب الدينية المتطرفة تشكل تحدياً لا يمكن إنكاره بالنسبة لنا جميعا.
وهي موجودة في كل ثقافة، وليست حكرا على الإسلام. ومن الواضح أننا ملتزمون بمكافحة التطرف الديني. ولكن، بعد هذا القول، فإن اتهام الإيديولوجيات المتطرفة بأنها سبب الإرهاب العنيف هو تبسيط للأمور. وهو لا يفسر لماذا أصبح التطرف العنيف تهديداً رئيسياً في منطقتنا، في حين أن الأيديولوجيات المتطرفة يمكن أن توجد في أي مكان.
إن الفشل النمطي للدول في منطقتنا، في تلبية الاحتياجات الأساسية لشعوبها يمهد الطريق أمام الإرهاب. وفى أغلب الأحيان، فإن نفس الدول التي تتجاهل هذه الاحتياجات تعرقل أيضاً كافة السبل الممكنة للإصلاح السلمي.
وقد تم تهميش قطاعات ضخمة من السكان في العديد من البلدان العربية، مما أتاح الفرصة للأنظمة القمعية لاستخدام الطائفية كأداة للسيطرة على المجتمعات المتعددة الديانات.
ويجب أن نضيف إلى ذلك إحساساً متناميا بأن الشباب في منطقتنا يعتقد أن العالم يتصف بالنفاق والظلم. وبالنسبة للكثيرين في الشرق الأوسط، هناك شعور بأن “عالمية” حقوق الإنسان لنظام ما بعد الحرب هي دائما خالية من الصدق والإخلاص.
وهذا أحد أكثر العواقب الصارخة للفشل في حل الصراعات الإقليمية ومعالجة المظالم: الشعوب تفقد الإيمان بحكوماتها، وليس لديها وسيلة لإنفاذ التغيير بطريقة سلمية.
اليوم، ونحن نتحدث، تمت هزيمة ما يسمى “بالدولة الإسلامية في العراق وسورية (داعش)” عسكرياً في العراق، وسوف تُهزم قريبا في سوريا، ولكن المعركة الحقيقية، وهي وضع أسس التعايش السلمي لم تبدأ بعد. وعلينا أن نوجه انتباهنا إلى إنهاء الظروف التي أتاحت لداعش في المقام الأول سيلا متواصلا من المجندين الطوعيين.
إن هذه الظروف معقدة.
في المنطقة العربية، وعدت مجموعة من القادة الذين صعدوا إلى السلطة بعد الاستقلال بتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية لشعوبها. وعوضا عن الوفاء بهذه الوعود، تدهورت الدولة العربية إلى دولة على الشعب فيها أن يختار بين “الأمن” بمعناه الطبيعي الأساسي، وبين كرامته وحريته وتطلعاته للعدالة الاجتماعية من جهة أخرى.
وبدلاً من القيادة الحكيمة التي تسهل الإصلاح التدريجي، تحاصر الأنظمة الشعوب في قتال من أجل كرامتها. إن المجازر التي أعقبت الثورات المضادة، بعد الانتفاضات العربية في عام 2011 أظهرت لنا جميعا ما هي النتائج النهائية لهذا الخيار الصارخ.
لقد دعا الشعب إلى الكرامة وجاء الرد عليه بإسكاته بعنف.
يجب أن تنتهي هذه الدورة. إن هذا التجمع هنا في ميونخ يجب أن يؤتي ثماره، وعندما نغادر يجب أن نكون قد كوّنا صورة واضحة عن كيفية إنهاء الصراع وتوفير الحقوق الأساسية والأمن لشعوبنا.
وبعد الإشارة إلى ثمانية من أكثر عشرة صراعات فتكا في العالم لها جذور في الشرق الأوسط الأوسع، عزا تقرير ميونخ للأمن هذا العام هذه الصراعات إلى مجموعة محددة من العوامل:
– الافتقار إلى التقدم الاجتماعي والاقتصادي.
– تزايد الانقسامات الطائفية.
– الصراعات الإقليمية.
– التحول في المشاركة من القوى الخارجية.
وأود أن أضيف أيضا عاملين آخرين:
– التهور، و
– عدم وجود إطار لتوفير أمن مشترك.
السيدات والسادة،
ليس سراً أن بلدي قد تعرض خلال الأزمة الخليجية الحالية لتجربة بعض هذه العوامل. لقد كانت أزمة عديمة الجدوى افتعلت من قبل جيراننا، وبعضهم لاعبون إقليميون رئيسيون كان يعتقد في وقت ما أنهم عوامل استقرار على الساحة العالمية. لم يعد الأمر كذلك. فقد أدت سياستهم المغامرة إلى تقويض الأمن الإقليمي والأفق الاقتصادي لمجلس التعاون الخليجي ككتلة.
ولو كانت العلاقات الإقليمية تسترشد بالحكم الرشيد وحكم القانون، لما رأينا دولاً ذات موارد محدودة تتعرض لابتزاز يملي عليها مقايضة سياساتها الخارجية بالعون الخارجي. وقد رفضت دول أخرى تحتاج أيضاً لعون مالي هذا العرض وبقيت وفية لمبادئها.
ولو أن العلاقات الإقليمية تسترشد بمبادئ الحكم الرشيد وحكم القانون لما شهدنا سوء استخدام الثروة أو السلطة أو القيود الجغرافية لإرضاء التعطش للقوة.
السيدات والسادة،
حتى مع الاضطرابات الإقليمية، ظلت قطر واحدة من أكثر بلدان العالم سلمية.
وعلى الرغم من العقبات المفروضة علينا، بما في ذلك الحصار البري والجوي والبحري الكامل ابتداء من 5 يونيو من العام الماضي، فقد أمنت قطر طرق تجارة جديدة وعجلت بالتنوع الاقتصادي وعززت وحدتها وظهرت أكثر قوة.
لقد واصلنا التجارة مع العالم الأوسع. ونحن لم نفوت شحنة واحدة من الغاز الطبيعي المسال خلال هذا الوقت. وهذا أمر حيوي لبقية العالم، حيث أننا ثاني أكبر مصدر للغاز الطبيعي، وتضمن صادراتنا استقرار إمدادات الطاقة العالمية.
ومن خلال نزع فتيل تأثير الإجراءات غير القانونية والعدوانية المفروضة على شعبنا، حافظت قطر على سيادتها.
ولقد أظهر هذا الحصار الفاشل كيف يمكن للدول الصغيرة أن تستخدم الدبلوماسية والتخطيط الاقتصادي الاستراتيجي لمواجهة عواصف العدوان من جيران كبار وطامعين.
هذه العناصر العدوانية الفاعلة تريد استغلال الدول الصغيرة كأحجار شطرنج في ألعاب القوة والنزاعات الطائفية. ومن الحيوي لمصالح شعوب الشرق الأوسط ضمان استقلال وسيادة دول مثل قطر التي ترفض أن تجبر على الوقوف إلى جانب أحد طرفي صراع قائم بين معسكرين متواجهين.
إن الحفاظ على السيادة واستقلالية صنع القرار في بلدان مثل قطر يضمن التنمية المتسارعة … تنمية كحرية الإعلام وحرية التعبير التي تُصر “دول الحصار” على تخلينا عنها.
وأمام هذا الحضور المتميز، أعتقد أن الوقت قد حان لإيجاد أمن إقليمي أوسع في الشرق الأوسط. كما حان الوقت لكل شعوب المنطقة كي تنسى الماضي –بما في ذلك نحن– والاتفاق على ضوابط أمن أساسية و قواعد حوكمة، وعلى الأقل على حد أدنى من مستوى أمني يتيح توفير السلام والازدهار.
كل الشعوب في الشرق الأوسط كبيرها وصغيرها في حاجة للاتفاق على الحد الأساسي من التعايش الذى تدعمه آليات تحكيم ملزمة، وينفذه الكيان الجماعي للمنطقة.
يمكننا الاقتداء بالاتحاد الأوربي في إيجاد أرضية مشتركة من أجل إعادة البناء والرخاء.
إن التحول من النزاعات إلى التعاون يتطلب من كل منا أن يكون مسؤولاً عن تنفيذ ما يلي:
– السماح بتدفق المعونات الإنسانية ومرورها عبر الحدود.
– السماح بمرور الأسر بحرية وأمان.
– إتاحة أماكن العبادة لكافة الأديان.
– منع تدنيس المواقع التاريخية والدينية، واحترام الطرق التجارية المشتركة.
وذلك لا ينبغي أن يكون مجرد أضغاث أحلام، فالكثير جداً عرضة للمخاطر.
الشرق الأوسط على الحافة … وقد آن الأوان لإبعاده عنها.
وجميعنا هنا، وخاصةً من يتمتعون بقدر كبير من السلطة والثروة، تقع عليهم مسؤولية حل النزاع.
إن الشرق الأوسط بحاجة إلى مساعدة المجتمع الدولي الكبير لكي ينجح في هذه المهمة.
أدعو جميع الدول في الشرق الأوسط لقبول دعوة للاشتراك في اتفاقية أمنية جامعة كهذه.
وأحث جميع الدول على الاستمرار في ممارسة ضغط دبلوماسي على منطقتنا من أجل تحقيق ذلك.
يجب علينا البدء باتفاقية أمنية إقليمية كي يتمكن الشرق الأوسط من جعل الاضطرابات شيئاً من الماضي.
مع تفاؤلنا بالخير سنظل يحدونا الأمل بمستقبل يسوده الأمن الحقيقي على المستويين الوطني والشخصي وفي جميع الدول.